حول زواج الصّغيرات!
أ.د. ناصر العمر
من المسائل الّتي فرضت نفسها، في الآونة الأخيرة: مسألةُ زواج
الصّغيرات، لا تكاد تخلو صحيفةٌ يوميّة، أو موقعٌ في الشبكة العنكبوتية،
من إثارةٍ لهذه المسألة، بل بلغني أنّها قد عُرضت على هيئة كبار العلماء،
كما أنّ بعض المسئولين في وزارة العدل، قد تطرّق إليها، وبات السؤال
مطروحاً بصددها: هل يمكن أن تُزوّج الصغيرة؟ وهل يجوز لوليِّ الأمر، -أي
الحاكم- أن يمنع وليَّ الفتاة الصغيرة، من تزويجها؟
وهي أسئلةٌ موضوعيّةٌ، تستحقُّ الإثارة، وتداول وُجهات النّظر حولها، في
ظلال القرآن الكريم والسّنة المطهرة، إذ إنّها تتعلّق بقضيّةٍ من القضايا
المهمّة بالنسبة لمجتمعنا المسلم، فحبّذا لو أُثيرت، من منطلق البحث
العلميّ الموضوعيّ، الّذي يستهدف تحقيق المصلحة الشرعيّة، للفرد المسلم
ذكراً أو أنثى، وللمجتمع كلّه!
لكن، وممّا يؤسف له، أنّ الممسكين بزمام هذه القضية، والمستثيرين للأسئلة
وعلامات الاستفهام بصددها، هم تلك الفئة التي يعرفها مجتمعنا جيّداً،
فئةٌ لا ترقُب في عقيدته ولا في شريعته إلاً ولا ذمّة، فئةً سقطت للأسف في
مستنقع التّبعية لكلّ ما هو أوربيّ، فلذا تجدهم يُعيدون النَّظر في كلِّ
شيءٍ، يقولون: "استناداً إلى العقل"، والعقل بريءٌ، وإنما هي مرجعيّتهم
الليبرالية، يختارونها بوعيٍ منهم، لتكون بديلاً عن أصول الشّرع، نسأل
الله أن يهديهم سواء السّبيل، وليتهم يعرفون أنّ ديننا وشريعتنا، أفقٌ
مفتوحٌ للاجتهاد من أجل تحقيق المصلحة، في إطار الضوابط، التي ما وُضعت
ولا شُرعت إلا من أجل حماية الإنسان من الزَّيغ عن مصالحه الحقيقية.
من هؤلاء الليبراليّين أو أتباعهم، كاتبٌ زعم أنّ: "الزواج بالصَّغيرة
أمرٌ ترفضه الإنسانيّة، فضلاً عن الدّيانات السّماوية"، مُحكّماً أهواءه
الليبرالية، متناولاً أدلّة العلماء وأقوالهم في هذه المسألة، بأسلوبٍ
مجافٍ للموضوعيّة، صارفاً لها عن طريقه يَمنةً ويَسرة، ليُتيح لقلمه أن
يُقرّر ما تجيش به نفسُه وأهواؤه العلمانيّة، وممّا يدلّ أبلغ الدّلالة
على سوء نوايا هذه الفئة، ومسلكها المجافي لقيم مجتمعنا، قوله: "ومن
المخجل ما رواه البخاريّ برقم كذا وكذا بسنده، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة
قالت: "تزوّجني النّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ستِّ سنين، فقدمنا
المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج، ... إلى آخر الحديث الصّحيح"
فتأمّلوا! يعتبرُ إيرادَ البخاريِّ لهذا الحديث القطعيّ الثّابت أمراً
مخجلاً!
فأيُّ مسلمٍ عاقل، ذاك الّذي يُبيح لنفسه أن يتطاول، ويُثير الشّكوكَ في
أصل الشّرع؟! لكنّها شرذِمّة رضعت من لبان العلمانيَّة والفكر الأوربيّ
المادي، وصارت تبثُّ سمومها، عبر وسائل الإعلام، مستظلّة بمظلّة حرية
الفكر، بل هي حرّيّة الكفر!
والقول الصحيح في هذه المسألة، والمجمع عليه، والّذي لا مرية فيه: أنّ
تزويج الصغيرة التي بلغت تسع سنواتٍ من عمرها، أمرٌ جائزٌ، لا خلاف فيه
بين الفقهاء، اللهمّ إلا ما نقله ابن حزمٍ عن ابن شبرمة، ممّا لا مستند
له، ولم يثبت أنّه سابقٌ لإجماع العلماء في هذه المسألة. وبين يديَّ فتوى
سابقة للجنة الدائمة، وهي الفتوى رقم (647) تقرّر هذا القولَ، وتُبيّن أن
ّمستنده: الكتاب والسنة والإجماع.
أمّا الكتاب فقوله تعالى من سورة الطلاق: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} قالوا: وهذه يدخل فيها الآيِسة،
والصغيرة التي لم تحض، فهذا دليلٌ واضحٌ على الجواز، لأنّ سياق الآية
يتعلّق بعدّة الطلاق، وإنّما يكون الطلاق بعد زواج، فهذا كما قال العلماء:
"استنباطٌ حَسَن" ذهب إليه ابنُ حجر وغيرُه من العلماء.
أمّا السُّنة فحديث عائشة، الّذي أشرنا إليه سابقاً، وهو واضحٌ في دلالته
على المقصود وضوحَ الشّمس، ولننتبه إلى أنّ هذا الحديث لا يقول بالوجوب،
وإنّما يقول بالجواز، إذا رأى وليُّ أمر الصّغيرة مصلحةً في تزويجها، ووجد
لها الكفء المناسب لها، بحسب اجتهاده، وذلك كلّه كما ذهب العلماء،
استثناءً من القاعدة العامّة في أنّ الفتاة البكر تُستأمر عند زواجها.
أمّا الإجماع، فقد قال ابنُ عبد البر: "أجمع العلماء على أنّ للأب أن
يزوّج ابنته الصّغيرة"، وكذلك قال ابن حجر: "والبكر الصغيرة يُزوّجها
أبوها اتّفاقاً إلا من شذّ"، والمقصود بهذه الإشارة -كما ألمحنا- ابن حزم
وابن شبرمة.
وهناك مسألة مهمّة، وهي أنّ العلماء قد فرّقوا في هذا الأمر بين العقد
والدّخول، فإنهم وإن كانوا أجازوا تزويج الأب ابنته الصغيرة، أجازوا له أن
يشترطَ عدم الدخول بها إلا إذا بلغت كذا، والقاعدة التي ذهب إليها
العلماء في هذا الصّدد، هي أن يكون مثلُها يوطأ، فيجوز التّزويج إذن
لمصلحةٍ معتبرة، حتّى إذا لم تبلغ البكرُ تسع سنوات، لكن لا يُدخل بها إلا
إن كانت تُطيق الوطء، والملاحظ أنّ إطاقة الفتيات وكذا حيضهنَّ، يتفاوت
بحسب الخلقة والصفات، فقد قيل إنّ الفتاة في القطب المتجمد الجنوبي، لا
تحيض إلا عند سنّ الحادية والعشرين، وذكر الإمام الشافعيّ أنّ بعض الفتيات
في اليمن وتهامة تحيض منذ سنّ التاسعة، وقال: "رأيتُ في صنعاء جدّةً،
بنتَ إحدى وعشرين سنة، حاضت ابنة تسع، وولدت ابنة عشر، وحاضت البنتُ ابنة
تسع، وولدت ابنة عشر".
ومن ناحيةٍ أخرى، يُلحظ أنّ معظمَ الّذين انبرَوا بأقلامهم، للكلام في
هذه القضية، يرون أنّ الصّغيرة هي التي لم تبلغ ثماني عشرة عاماً، وهو فوق
سنُّ البلوغ عند كثير من العلماء، وفي ذلك من المفاسد ما فيه، ومن عدم
تقدير حال الفتياتِ اللّواتي دون هذه السّنّ، وقد جاشت في أنفسهنّ
الرَّغبة، وتطلّع أولياؤهنّ لإعفافهنّ وتحصينهنّ بالزَّواج.
ومن كابر وعاند وجادل في هذا فدونه إحصائيات الغرب شهادتها تقطع حجته،
فحالات حمل الصغيرات مثبتة مسجلة، وبعضهن في المرحلة الابتدائية! والعجيب
أنه إن طُلقت بنت اثنتي عشرة سنة في اليمن أقاموا الدنيا وما أقعدوها كما
حصل قبل مدة، وجعلوه اضهاداً للمرأة، أما إذا أنجب ابن عشر سنين في الغرب
عهرا –كما أعلن ذلك في عدد من وسائل الإعلام العالمية- احتفلوا: بأصغر أب،
وتكفلت دولهم بالعناية والمهمات! تلك هي حالهم وذلك هو ديننا ولكن
المنافقين لا يفقهون!
وينبغي في ختام هذه الوقفة، أن نقرّر ما ذهب إليه الفقهاء، من أنّه: إذا
قام سببٌ معتبرٌ يمنع تزويج الصّغيرة، فلا يجوز أن تُزوّج، كما أن مَن
كانت دون تسع سنين؛ فلا ينبغي أن يدخل بها ولا يحسن أن تزوج إلا إذا قام
سبب معتبر لتزويجها، مثاله: مسلمٌ يعيش في بلدٍ من بلاد الكفر، عنده بنتٌ
وليس له أهلٌ في تلك البلاد، وقد وجد لبنته مسلماً كفؤاً، ويخشى أن لا
يتيسّر له مثلُ هذا الزّوج، في تلك البيئة، فهذا يجوز له أن يُزوّجها، وأن
يشترط على هذا الزوج أن لا يدخل بها، إلا بعد سنّ كذا، أو عندما تكون
مُطيقةً للوطء، وهو شرطٌ معتبرٌ، فلا تحلُّ هذه الصّغيرة له، إلا بتحقيق
هذا الشرط، والله أسأل أن يبصر المسلمين بدينهم، وأن يعف أولادهم، وأن
يعصمهم من أسباب المعصية، والله المستعان.