كنت أطلع وأجمع أقوال الأئمة في أن السلف الصالح رضوان الله عليهم يفهمون
معاني الصفات ولا يفهمون الكيف, خلافا للأشعرية والمعتزلة والماتريدية ومن
نحا نحوهم, وهم يزعمون ويدعون أن السلف لم يكن لهم فهم في معاني الصفات,
فعندهم (ألم) و(الرحمن على العرش استوى) بمعنى واحد, سبحان الله, وفساد هذا
القول معلوم عندنا ولله الحمد.
ولما كنت أجمع الأقوال اطلعت قولا للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى من كتابه فتح الباري, وهذا نصه:
وقال غيره قول من قال طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم ليس بمستقيم لأنه
ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك
وان طريقه الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع
المجازات فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف والدعوى في طريقة الخلف
وليس الأمر كما ظن بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى وفي غاية
التعظيم له والخضوع لأمره والتسليم لمراده وليس من سلك طريق الخلف واثقا
بان الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تاويله واما قولهم في
العلم فزادوا في التعريف عن ضرورة أو استدلال وتعريف العلم انتهى.
أتى به للإستدلال, وهذا يدل على أنه أقره.
والآن فالننظر عن من أتى بهذا القول, فإني لما رأيت هذا الكلام قلت: يشبه
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية, ولا يخفى لمن اطلع على مقالات شيخ الإسلام
طريقة كلامه ورده, ثم وجدت في مجموع الفتاوى هذا الكلام لشيخ الإسلام:
(وهو يرد على من قال: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم) وَإِنْ كَانَتْ
هَذِهِ الْعِبَارَةُ إذَا صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَدْ يَعْنِي
بِهَا مَعْنًى صَحِيحًا . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ
يُفَضِّلُونَ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ حَذَا
حَذْوَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ : إنَّمَا أَتَوْا مِنْ حَيْثُ
ظَنُّوا : أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ
بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ لِذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : {
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ }
وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ هِيَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي النُّصُوصِ
الْمَصْرُوفَةِ عَنْ حَقَائِقِهَا بِأَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ وَغَرَائِبِ
اللُّغَاتِ . فَهَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ أَوْجَبَ " تِلْكَ الْمَقَالَةَ "
الَّتِي مَضْمُونُهَا نَبْذُ الْإِسْلَامِ وَرَاءَ الظَّهْرِ وَقَدْ
كَذَبُوا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَضَلُّوا فِي تَصْوِيبِ طَرِيقَةِ
الْخَلَفِ ؛ فَجَمَعُوا بَيْنَ الْجَهْلِ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي
الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ . وَبَيْنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِتَصْوِيبِ
طَرِيقَةِ الْخَلَفِ...
قلت: فإن قال قائل: الكلام بالمعنى وليس باللفظ, لقلت: ومعروف عند اهل
العلم أن ينقل الإمام كلام غيره من اهل العلم, وينقل كلامه بالمعنى لعدم
استحضاره للكلام باللفظ مثلا, أو أنه قرأه قبل مدة فاختلط عليه الكلام فذكر
كلامه بالمعنى ونحو ذلك.
لكن هنا امر غريب لاحظته, وهو أن الحافظ ابن حجر نقل كثيرا من الأقوال في
ذم الكلام ونحوه من غير ابن تيمية, كالآمدي والرازي(معلوم أن أكثر
المتكلمين تابوا ما عرفوا الكلام وما فيها من الضرر) وغيرهما, ولكن لماذا
لم يصرح باسم ابن تيمية؟
هذا هو محل السؤال, وأنا أوجهه للإخوة.
فهل يمكن أن يكون لم يسم اسم شيخ الإسلام لأن مشايخه ومن حوله من الأشاعرة؟
وإذا كان كذلك هل يوجد نص صريح منه أو من بعض المؤرخين أن مشايخه ومن كان حوله كانوا من الأشاعرة؟
وإذا كان كذلك لماذا سمى اسم شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض الأماكن في الكتاب نفسه واحتج به تارة؟ وإن كان هذه المواضع قليلة جدا؟
وهل يمكن أن يكون هناك احتمال آخر في هذا؟
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه اجمعين.