حكم لعن المعين
ما حكم لعن ( وليس سب فقط ) اليهود والنصارى أفرادا أو جماعات أحياءً كانوا أم أمواتا ؟ .
الحمد لله
قال صاحب لسان العرب : اللعن : الإبعاد والطرد من الخير ، وقيل
الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخَلْق السب والدعاء .
واللعن يقع على وجهين :
الأول : أن يلعن الكفار وأصحاب المعاصي على سبيل العموم ، كما لو
قال : لعن الله اليهود والنصارى . أو : لعنة الله على الكافرين والفاسقين والظالمين
. أو : لعن الله شارب الخمر والسارق . فهذا اللعن جائز ولا بأس به . قال ابن مفلح
في الآداب الشرعية (1/203) : ويجوز لعن الكفار عامة اهـ .
الثاني : أن يكون اللعن على سبيل تعيين الشخص الملعون سواء كان
كافراً أو فاسقاً ، كما لو قال : لعنة الله على فلان ويذكره بعينه ، فهذا على حالين
:
1- أن يكون النص قد ورد بلعنه مثل إبليس ، أو يكون النص قد ورد
بموته على الكفر كفرعون وأبي لهب ، وأبي جهل ، فلعن هذا جائز .
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/214) : ويجوز لعن من ورد النص
بلعنه ، ولا إثم عليه في تركه اهـ .
2- لعن الكافر أو الفاسق على سبيل التعيين ممن لم يرد النص بلعنه
بعينه مثل : بائع الخمر - من ذبح لغير الله - من لعن والديه - من آوى محدثا - من
غير منار الأرض - وغير ذلك .
" فهذا قد اختلف العلماء في جواز لعنه على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه لا يجوز بحال .
الثاني : يجوز في الكافر دون الفاسق .
الثالث : يجوز مطلقا " اهـ
الآداب الشرعية لابن مفلح (1/303) .
واستدل من قال بعدم جواز لعنه بعدة أدلة ، منها :
1- ما رواه البخاري (4070) عن عبد الله بن عمر أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ
الرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ
الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا وَفُلانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( لَيْسَ لَكَ مِنْ
الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ ) .
2- ما رواه البخاري ( 6780 ) عن عمر أن رجلا على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب ، فأتي به يوما
فأمر به فجلد ، قال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنوه ، فو الله ما علمت ، إلا أنه يحب الله ورسوله ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (6/511) :
" واللعنة تجوز مطلقا لمن لعنه الله ورسوله ، وأما لعنة المعين
فإن علم أنه مات كافرا جازت لعنته ، وأما الفاسق المعين فلا تنبغي لعنته
لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يلعن عبد الله بن حمار الذي كان يشرب
الخمر ، مع أنه قد لعن شارب الخمر عموما ، مع أن في لعنة المعين إذا كان
فاسقا أو داعيا إلى بدعة نزاعاً "
اهـ " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد" (1/226) :
" الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم ؛
فالأول (لعن المعين) ممنوع ، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم)
جائز ،فإذا رأيت محدثا ، فلا تقل لعنك الله ، بل قل : لعنة الله على من آوى
محدثا ، على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله : (اللهم ! العن
فلانا وفلانا وفلانا ) نهي عن ذلك بقوله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو
يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) رواه البخاري " اهـ .
ختلف العلماءرحمهم الله في لعن المعين على ثلالثة أقوال :
القول الأول :
أن لعن المعين لايجوز بحال من الأحوال وهو مروي عن طائفة من أصحاب أحمد
وغيرهم . وظاهر كلام الخلال أنه قول الحسن البصري وابن سيرين وأحمد ابن
حنبل رحمهم الله [ يراجع السنة للخلال ص522]
قال شيخ الإسلام رحمه الله : المنصوص عن أحمد الذي قرره الخلال اللعن
المطلق العام لا المعين .. الى أن قال : وكلام الخلال يقتضي أن لايلعن
المعين من الكفار ،فإنه ذكر قاتل عمر وكان كافرا ، يقتضي أنه لايلعن المعين
من أهل الأهواء ، فإنه ذكر قاتل علي وكان خارجيا . أهـ [ نقله عن شيخ
الإسلام ابن مفلح في الآداب الشرعية ج 1ص272ـ 273]
وما قرره الخلال في ظاهر كلامه من أن القول بعدم جواز لعن المعين هو قول
الأئمة الحسن وابن سيرين وأحمد محل نظر ، فإن توقفهم في لعن بعض المعينين
لا يدل على عدم الجواز والمنع من ذلك على ما يأتي تقريره وممن صرح بعدم
جواز لعن المعين أبو بكر عبدالعزيز بن جعفر من كبار أصحاب أحمد كما نقل عنه
الخلال وممن قال بهذا القول من المتأخرين أبو حامد الغزالي والنووي وابن
منير نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح [ انظر فتح الباري ج12ص76
القول الثاني : أن اللعن يجوز في حق الكافر دون الفاسق . وممن ذهب الى هذ
القاضي أبو يعلى قال : ( من حكمنا بكفرهم من المتأولين وغيرهم فجائز لعنتهم
نص عليه ( أي أحمد ) وذكر أنه قاال في ( اللفظية ) على من جاء بهذا لعنة
الله عليه ، عضب الله عليه وذكر أنه قال عن قوم معينين : هتك الله الخبيث
وعن قوم أخزاه الله ) . [نقله ابن مفلح في الآداب الشرعية ج1ص271]
القول الثالث :
أن اللعن جائز مطلقا ، وهو قول ابن الجوزي قال في لعنة يزيد : " أجازها
العلماء الورعون منهم أحمد ابن حنبل " [الآداب الشرعية لابن مفلح ج1
ص369]قال شيخ الإسلام رحمه الله : وأما أبو الفرج فله كتاب في اباحة لعنة
يزيد رد فيه على الشيخ عبدالمغيث الحربي.أهـ
وسبب ختلاف العلماء رحمهم الله هنا أن حكم لعن المعين يتجاذبه نوعان من
الأدلة نوع دل على إباحة اللعن بالكفر والفسق والإبتداع والأفعال الموجبة
لكل واحد من هذه الأوصاف .
ونوع دل على تحريم العن ومافيه من الوعيد الشديد كقوله صلى اللله عليه وسلم
: ( ، اللعانين لايكونون شهداء ولاشفعاء يوم القيامة ) .....
ومن قال بعدم الجواز ذهب أن نصوص التحريم وماجاء فيه من الوعيد أنها في حق المعين وأن نصوص الإباحة في غير حق المعين .
ومن قال بالجواز ذهب الى أن نصوص الإباحة جاءت في حق مستحق اللعن من المعين وغيرالمعين , وأن نصوص التحريم في حق من لايستحق اللعن .
ومن فرق بين لعن الكافر والمسلم نظر ال أصل معنى اللعن الذي هو الطرد
والإبعاد من الرحمة فرأى أن المسلم لايستحق اللعن إذ ترجى له المغفرة
والرحمة وإنما يستحق ذلك الكافر والمبعد عنها .
وفي الحقيقة إن المسألة اجتهادية والخلاف فها سائغ ، إذا الأقوال فيها كلها
مروية عن السلف ، غير أن الذي يترجح من الأقوال هو القول الثالث , وهو
القول بجوزا لعن المعين إذا كان مستحقا لذلك سواء كان كافرا أو مسما فإن
هذا القول هو الذي تعضده الأدلة في مجموعها وتناصره أقوال الأئمة وأفعالهم .
وترجيحه من وجهين :
الوجه الأول : دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ( الله إني
اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فإنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته ، شتمته ،
لعنته ، جلدته ، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بهاا ليك يوم القيامة )
وفي رواية أخرى من طريق صحيح مسلم أيضا : ( إني اشترطت على ربي فقلت : إنما
أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر ، فأيما أحد دعوت عليه
من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا , وزكاة وقربة ، يقربه منه
بها يوم القيامة )
فدل الحديثان على وقوع اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المعينين من
المسلمين تعزيرا لهم ، وأن ذلك اللعن وقع منه صلى الله عليه وسلم
بالإجتهاد ، لابالوحي بدليل قوله ( إنما أنا بشر ) وقوله ( ليس لها بأهل )
وهذا مما يدفع النقض على الدليل من أن اللعن إنما وقع منه بنص وليس لنا أن
نلعن إلا نبص .
كما أن دعاءه صلى الله عليه وسلم لمن دعا عليه أو لعنهم من المعينين لايفهم
منه رفع اللعنة عنهم إن كانوا مستوجبين لذلك بدليل قوله : ( ليس لها بأهل )
مما يدل على بقاء الحكم دون النسخ .
فترجح بذلك جواز لعن من دلت النصوص على اللعن بفعله من المعينين المسلمين
اجتهادا إذا تحققت فيه الشروط الموجبة لذلك , وانتفت فيه الموانع المانعة
من لعنه ، وثبوت ذلك في الكافر من باب أولى .
الوجه الثاني : أن القول بجوزا لعن مستحقي اللعنة من العينين هو ظاهر مذهب
عامة السلف على ما دلت عليه أفعالهم بمباشرتهم لعن بعض المعينين المستوجبين
اللعن أئمة أهل البدع والضلال , وكما ثبت ذلك بالنقل الصحيح عنهم .
روى نصر المقدسي عن عبدالرحمن بن مهدي قال : ( دخلت على مالك بن أنس رضي
الله عنه وعنده رجل يسأله عن القرآن والقدر ، فقال : لعلك من أصحاب عمرو بن
عبيد ، لعن الله عمروا فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام [ مختصر الحجة على
تارج المحجة لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي ]
قال البخاري : وقال وكيع : علي المرسي لعنه الله ، يهودي هو أو نصراني ؟
قال رجل : كان أبوه أو جده يهوديا أو نصرانيا قال وكيع : عليه وعلى أصحابه
لعنة الله " [ خلق أفعال العباد ضمن مجموعة ( عقائد السلف تحقيق النشار
ص124] وروى عبداله بن أحمد عن يزيد بن هارون أنه قال : ( لعن الله الجهم
ومن قال بقوله ) [ السنة لعبدالله بن أحمد ج1ص167وقال محقق الكتاب الدكتور
محمد سعيد القحطاني : إسناده صحيح ]
وروى عبدالله أيضا عن عباس العنبري عن شاذ بن يحيى قال سمعت يزيد بن هارون
يقول : ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر ، وجعل شاذ بن يحيى يلعن المريسي )
...
فدلت هذه النقول عن هؤلاء الأئمة اعتقادهم جواز لعن المعينين من أهل البدع ،
لبماشرتهم ذلك بأنفسهم فلامعنى لذلك مع ما عرفوا به من فقه وفهم ، وتقوى
وورع ، إلا أن ذلك هو مذهبهم .
وفي الحقيقة أن هؤلاء لايعلم لهم مخالف من الأئمة المتقدمين إلا ماكان من
أتباع الأئمة كأصحاب أحمد وغيره ، الذين تأولوا توقف بعض الأئمة في لعن بعض
المعينين على أنهم لايرون جواز لعن المعينين مطلقا ، كما ذهب الى القول
بعدم الجواز من ذهب من أتباع الأئمة تأسيا بهم فيما ظنوه أنه مذهبهم .
والتحقيق في أقوال هؤلاء الأئمة أنا لانجد فيما وصل الينا من النقل عنهم
نصا صريحا يدل على قولهم بتحريم لعن المعينين ، وغاية مافي الأمر أن بعضهم
توقف في لعن بعض المعينين من أمثال يزيد والحجاج أو أرشد الى اللعن المطلق ،
دو النهي عن لعن المعين .