فلا يخفى أنَّ الغلو في القبورِ بشتى صورهِ وأنواعهِ قد عمّ وطم في غالبِ
البلاد، وتلبَّس بهذه المظاهر الـشـركـية وطرائقها الكثيرُ من الناس، وصارت
هذهِ القبورُ مزارات، و(مشاعر) يقصُدها الناس، ويشدُّون إليهـا الرحال من
سائر الأمصار؛ وسدنةُ هذه الأضرحةِ وعلماءُ الضلالةِ يزيّنون الشركَ
للعامةِ بشتى أنواع الدعاوى والشبهـات، ويأكلون أموالَ الناسِ بالباطـل،
ويصدون عن سبيل الله تعالى.
إنَّ على المنتسبين للعلمِ والدعوةِ واجـباً كبيراً تجاهَ هذا التيارُ
الوثني، وفي هذه المقالةِ نُوردُ بعض المسالكِ الرئيسةِ التي تُسهم في حلِّ
وعلاجِ انحرافات القبوريين وشبهاتهم.
أ- المسلكُ الدعوي: ويتمثلُ هذا المسلكُ من خلال عدة أمور:
1-أن يُعنى العلماءُ والدعاةُ بتقريرِ التوحـيد، في تلكَ المجتمعاتِ
المولعةِ بتعظيمِ القبورِ والغلو فيها، وأنَّ يجتهدوا في تجليةِ مفهومِ
التوحيد، من خلالِ القصصِ القرآني، وضربِ الأمثال، وضرورةَ تعلقُ القلب
بالله ـ سبحانه وتعالى ـ وأنَّ اللهَ عزَّ وجل هو المتفردُ بالنفعِ والضُر،
والخلقِ والتدبير، ومن ثَمَّ فهو المألوه المعبود، الذي تألههُ القلوبُ
محـبةً وإجلالاً، وخشيةً ورجاءاً.
وأن يضمّن هذا التقريرُ بيانَ عجزِ المخلوقين وضعفهم، وأنَّهم لا يملكون
لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم- نفعاً ولا موتاً، ولا حياةً ولا نشوراً.
وأن يـسعى إلى تحبيبِ هذا التوحيدِ إلى الناس، من خلالِ الحديثِ عن فضائلِ
التوحيد، وبيانِ ثمراتهِ وآثاره، وأخـبـارِ الأنبياء ـ عليهم السلام ـ
والصالحين الذين حققوا التوحيد، كما ينبغي الاهتمامُ بإظهارِ أثرُ التوحيد
على الحياةِ العامة.
2- أن تُربى الأمة عموماً، وهذه المجتمعات المعظمةِ للقبورِ خصوصاً، على
أهميةِ التسليمِ لنصوصِ الكتابِ والسنةِ والتحاكم إليها، وانشراحُ الصدرِ
لها.
يقولُ سبحانه : (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُـؤْمِـنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً
مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء: 65].
وإذا كان طواغيتُ هذا العصرِ يفرضونَ على الناسِ احترامَ الشرعيةِ الدولية،
والإذعانَ والتسليمِ لقراراتِ الأممِ المتحدة؛ فإنَّ علينا ـ معشرَ
الدعاة إلى الله ـ أن ندعو المسلمين إلى ما أوجبهُ اللهُ عليهم، من
التسليمِ والانقيادِ لنصوصِ الوحيين، وعدمِ معارضتها بأيِّ نوعٍ من
المعارضات، سواءً أكان تقليداً، أو معقولاً، أو ذوقاً، أو سياسةً أو غيره؛
فالإيمانُ مبنيٌ على التسليمِ للهِ ـ تعالى ـ والإذعان لشرعه .
يقولُ أبو الزناد ـ رحمه الله ـ : ( إنَّ السننَ لا تُخاصم ولا ينبغي لها
أن تتبع بالرأي، ولو فعلَ الناسُ ذلكَ لم يمضِ يومٌ إلا انتقلوا من دينٍ
إلى دين، ولكنهُ ينبغي للسننِ أن تُلزَم ويُتمسك بها على ما وافق الرأي أو
خالفه ) .
3- أن يدعى الناسَ إلى الالتزامِ بالشرعِ، والعملَ بالسنةِ؛ فإنَّ إظهارَ
السُننِ والتمسكُ بها يستلزمُ زوالَ البدعِ واندثارها، وكذا العكس، فإنَّهُ
ما ظهرت بدعةٌ إلا رُفع مثلها من السنةِ، والنفوسُ إن لم تـشتغل بسنةٍ
وتوحيد؛ فإنَّها ستشتغلُ ببدعةٍ وشرك؛ فالنفوسُ خُلقت لتعملَ لا لتترك .
وقد تتثاقلُ النفوسُ تجاهَ الالتزامِ بالأحكام الشرعية، وتنشطُ تجاهَ ما
أحدثتهُ من بدعٍ ومحدثات، ومن ثَمَّ يتعينُ على دُعاةِ الإصلاحِ أن يأخذوا
على أيدي هؤلاءِ، ويذكّروهم بفضلِ التمسكِ بالشرائع، وأنَّ هذه الشرائعُ
غذاءٌ وروح، وقرةُ عينٍ وسرورُ قلب .
يقولُ أبو الوفاء ابن عقيل: متحدثاً عن تلك النفوسِ المتثاقلةِ تجاهَ الشرائع:
(لما صعبت التكاليفُ على الجُهَّال والطغام، عدلوا عن أوضاعِ الشرع إلى
تعظيمِ أوضاعٍ وضعوها لأنفسهم، فسهُلت عليهم؛ إذ لم يدخُلوا بها تحت أمرِ
غيرهم، قال: وهم كفارٌ عندي بهذهِ الأوضاع، مثلُ: تعظيمِ القبورِ، وإكراماً
بما نهى الشرع عنه، من إيقادِ النيران وتقبيلها، وخطابِ الموتى بالألواح،
وكتبِ الرقاعِ فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا...) .
4- دعوةَ المخاطبين إلى تدبرِ آياتِ القرآن الحكيم، وحثهم على التأملِ
والتفكـرِ في معاني القرآن، كما قال سبحانه ـ : (( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)) [ص: 29].
وقال ـ عز وجل: (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) [النساء: 82]
.
وإن من أعظمِ أسـبابِ الضلالِ واستفحالِ الشرك: الإعراضُ عن تدبرِ آياتِ القرآن، والاقتصارُ على مجردِ قراءتهِ دون فهمٍ أو فقه.
فإذا نظرنا ـ مثلاً ـ إلى مسألةِ إفرادَ الله ـ عز وجل ـ بالدعاءِ
والاستغاثة، فإنَّها من أوضحِ الواضحاتِ في كتابِ الله، فقد تحدثَ عنها
القرآنُ في ثلاثمائةَ موضع .
ومع ذلك فما أكثرَ الذين يتلون هذه الآياتِ بألسنتهم، وينقُضونها بأفعالهم وأحوالهم.
يقول العلاّمةُ حسين بن مهدي النعمي ـ رحمهُ الله ـ (ت/1187هـ) متحدثاً عن ضلال القبوريين :
( لا جرمَ لمَّا كان ملاكُ أمرِ الجميعِ، وحاصلُ مبلغهم وغايتهم، هو
التلاوةُ دون الفقه والتدبر والإتباع، خفيٌّ عليهم ذلك، وعموا وصموا عنه،
وأنّى لهم ذلك؟ وقد منعهم سادتهم وكبراؤُهم من أهليهم، وممن يقومُ عليهم
ويسوسهم، وقالوا: كتابُ الله حجرٌ محجور، لا يُستفادُ منه، ولا يُقتبسُ من
أنوارهِ، ولا يُنال ما فيه من العلم والدين.
فـلـعمرُ اللهِ للخيرِ أضاعوا، وللشرِ أذاعوا، وإلاَّ فلولا ذلك لكانت هذه
المسألةُ [ إفـرادُ الله بالدعاء] من أظهرِ الظواهر، لما أنَّ العناية
في كتابِ الله بشأنها أتم وأكمل، والقصدُ إلـيها بالتكريرِ والتقريرِ
والبيان في كتاب الله أكثر وأشمل) .
ويقولُ الشيخُ العلاّمةَ عبد الرحمن بن حسن ـ رحمه الله في هذا المقام ـ:
(فمن تدبرَ عرفَ أحوالَ الخلقَ، وما وقعوا فيه من الشركِ العظيم، الذي بعث
اللهُُ أنبياءَه ورسلهُ بالنهي عنه، والوعيدُ على فعلهِ، والثوابُ على
تركه، وقد هلك من هلك بإعراضهِ عن القرآن، وجهلهِ بما أمرَ اللهُ به ونهى
عنه) .
وعلينا أن نتواصى بتطهيرِ القلوبِ وتزكيتها، لكي يحصلَ الانتفاعُ بمواعظِ القرآن وأحكامه.
يقولُ ابن القيم عند قوله : ((لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ))
[الواقعة: 79] . (دلّت الآيةُ بإشارتها وإيمائها على أنَّهُ لا يُدركُ
معانيه ولا يفهمهُ إلاَّ القلوبُ الطاهرة، وحرامٌ على القلبِ المتلوّثِ
بنجاسةِ البدعِ والمخالفات، أن ينالَ معانيه، وأن يفهمهُ كما ينبغي) .
5- مخاطبةُ عقولهـم، ودعوتهـم إلى التفكيـرِ والتأمـلِ؛ فإنَّ الولـوعَ في
تقديـسِ الأضرحةِ، والغلو فيها لا يظهرُ إلا عند أقوامٍ ألغـوا عقولهـم،
وعطلـوا تفكيرهـم، وأُشربـوا حبّ التقليدِ، ومحاكـاةَ الآبـاءِ دون حُجةٍ
أو برهان.
وقـد عُني القرآنُ بمخاطبة ذوي الألبابِ وأثنى عليهم، وحضّ على التفكر
والنظرِ في خلق السموات والأرض، واختلافُ الليل والنهار، كما تضمنَ القرآنُ
أدلةً عقلية، وحُججاً برهانيه، في تقريرِ التوحيد والنبوة والمعاد.
ومـن ذلك قوله تعالى ـ : (( قُلِ ادْعُوا الَذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ
اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّـمَـوَاتِ وَلا فِي
الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن
ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ)) [سبأ:22،23] .
يقولُ ابن القيم عند هذه الآيةِ الكريمة : ( فتأمـلَ كيف أخذتْ هذه الآية
على المشركين بمجامع الطُرقِ التي دخلوا منها إلى الشركِ، وسدتها عليهم
أحكمُ سدٍ وأبلغه؛ فإنَّ العابدَ إنَّما يتعلقُ بالمعبودِ ـ لما يرجو من
نفعهِ ـ وإلاَّ فلو لم يرجُ منهُ منفعةً لم يتعلقُ قلبه به، وحينئذٍ فلا
بدُّ أن يكونَ المعبُودُ مالكاً للأسباب التي ينفعُ بها عابده، أو شريكاً
لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة، وقد يشفعُ
عنده؛ فإذا انتفت هذهِ الأمورُ الأربعةِ من كل وجه وبطلت، انتفت أسبابُ
الشرك وانقطعت مواده، فنفى ـ سبحانه ـ عن آلهتهم أن تملكَ مثقالَ ذرةٍ في
السموات والأرض، فقد يقولُ المشركُ: هي شريكةٌ لمالكِ الحقِّ، فنفى شركتها
له، فيقولُ المشركُ: قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً، فقال: (وما له منهم
من ظهير) ، فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبرَ أنَّهُ لا
يشفعُ عنده أحد إلا بإذنه) .
ومـن الأجوبةِ العقليةِ في الردِّ على دعوى القبوريين، في أنَّهم ينتفعون
بهذه الأضرحةِ، ما ذكرهُ شيخُ الإسلامِ بقوله : (عامةَ المذكورِ من المنافع
كذبٌ؛ فإنَّ هؤلاءِ الذين يتحرون الدعاءَ عند القـبـور وأمثالهم، إنَّما
يُستجابُ لهم في النادر، ويدعو الرجلُ منهم ما شاءَ اللهُ من دعواتٍ،
فيستجابُ له في واحدةٍ، ويدعو خلقٌ كثيرٌ، فيستجابُ للواحدِ بعد الواحد،
وأين هذا من الذين يتحــرون الدعاءَ أوقاتَ الأسحار، ويدعونَ اللهَ في
سجودهم وأدبارِ صلاتهم، وفي بيوتِ الله؟ فإنَّ هؤلاءِ إذا ابتهلوا من جنسِ
ابتهال المقابريين، لم تكن تسقطُ لهم دعوةٌ إلا لمانع، بل الواقـع أنَّ
الابتهالَ الذي يفعلهُ المقابر يون إذا فعله المخلصون، لم يرَدِ المخلصون
إلاَّ نادراً، ولم يُستجب للمقابريين إلا نادراً، والمخلصون كما قال النبي :
( ما من عبدٍ يدعو اللهَ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ول قطيعةَ رحمٍ إلاَّ
أعطاهُ اللهُ بها إحدى خصالٍ ثلاث: إما أن يُعجـل اللـهُ دعوته، أو يدخرَ
له من الخيرِ مثلها، أو يصرفَ عنه من الشرِّ مثلها. قالوا: يا رسول الله!
إذاً نُكثـر. قال: الله أكثر) .
فهم في دعائهم لا يزالون بخير.
وأمَّا القبو رين فإنَّهم إذا استجيبَ لهم نادراً، فإنَّ أحدهم يضعفُ
توحيدهُ، ويقلُّ نصيبهُ من ربه، ولا يجدُ في قلبهِ من ذوقِ الإيمان وحلاوته
ما كان يجدهُ السابقون الأولون) .
6- من الجوانبِ الدعويةِ المهمة، أن نُميّز بين مراتبِ الشرِّ والانحراف؛
فالغلوُّ في القبور والافتتانُ بها له مراتبُ متعددة ومتفاوتة، فمنها ما
يكونُ شركاً بالله ـ تعالى ـ في توحيدِ العبادةِ، كالاستغاثـةِ بأرباب
القبور، ومنها ما يكونُ أشنعُ من ذلك، كأن يستغيثَ بالأمواتِ معتقداً فيهم
الضرَ والنفع، والتصرفَ في الكون، ومن الغلوِّ في القبورِ ما يكونُ
محرماً، ووسيلةً إلى الشركِ، كالصلاة عند القبورِ وتحري الدعاءَ عندها.
ويُخطئ بعضُ الدعاةِ، فلا يفرقون بين هذه المراتبِ من جهةِ الحُكم عليها،
كما قد يُخطئون فلا يميّزون من جهةٍ ترتيبها وأولويتها في الإنكار،
والمتعينُ أن تمِّيزَ هذهِ الانحرافاتِ وفقَ ما جاءتْ به الأدلةُ الشرعية،
وكما نهتمُّ بآكدِ الأُمورِ تقريراً ونقدمها، فكذا علينا أن نُعنى بأشنعها
تحذيراً، فيُحذِّرُ ابتداءً من الشركِ في الربوبية؛ فالشركُ في الإلهيةِ،
ثُمَّ ينظرُ إلى وسائلِ الشركِ وذرائعهِ، فما كان أشدُّها حُرمةً وأعظمها
وسيلةً للشركِ فيشتغلُ بمنعها، ثُمَّ ينتقلُ إلى ما دونها.
يقولُ شيخُ الإسلام في هذهِ المسألة: (والمؤمنُ ينبغي لهُ أن يعرفَ الشرورَ
الواقعةِ، ومراتبُها في الكتاب والسُنةِ، فيُفرقُ بين أحكامِ الأمورِ
الواقعةِ الكائنة، والتي يُراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليُقدم ما هو
أكثرَ خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفعُ أعظمَ الشرين باحتمالِ
أدناهما، ويجتلبُ أعظمَ الخيرينِ بفوات أدناهما، فإنَّ من لم يعرفِ الواقعَ
في الخلق، والواجبَ في الدين، لم يعرف أحكامَ الله في عبادهِ، وإذا لم
يعرف ذلك كان قولهُ وعملهُ بجهل، ومن عبد اللهَ بغيرِ علمٍ كان ما يُفسدُ
أكثرَ مما يُصلح ) .
7- من الوسائل الوقائيةِ النافعةِ تجاهَ هذا الانحراف: العملُ بقاعدةِ سدّ
الذرائع؛ فكلُّ ما كـان وسـيلةً أو ذريعةً تؤولُ إلى الشركِ فينبغي
التحذيرُ منها ومنعها حمايةً لجنابِ التوحيد؛ فالتهاونُ في هذهِ الوسائلِ
يفضي إلى الوقوعِ في الشركِ بالله ـ عز وجل ـ والخروجِ عن الملةِ، فمثلاً
الصلاةُ عند القبورِ، والبناءِ عليها، أمورٌ حرمها الشارعُ؛ لأنَّها طريقٌ
ووسيلةٌ تفضي إلى الشركِ بالله ـ تعالـى ـ، وقد أشار العلامة الشوكاني ـ
رحمه الله ـ إلى أن البناءَ على القبور سببٌ رئيس في عبادةِ القبور فقال: (
فلا شكَّ ولا ريبَ أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقادُ في
الأموات، هو ما زينَّهُ الشيطانُ للناسِ من رفعِ القبورِ، ووضعِ الستور
عليها، وتجصيصها، وتزيينها بأبلغِ زينة، وتحسينها بأكملِ تحسين؛ فإنَّ
الجاهلَ إذا وقعت عينُه على قبرٍ من القبور قد بُنيت عليه قبةً فدخلها،
ونظرَ على القبور الستورِ الرائعة، والسُرجِ المتلألئة، وقد سطعتْ حولهُ
مجا مرَ الـطيب، فلا شكَّ ولا ريب أنَّهُ يمتلئُ قلبه تعظيماً لذلك القبر،
ويضيقُ ذهنهُ عن تصورِ ما لهذا الميتِ من المنزلةِ، ويدخُلُه من الروعةِ
والمهابةِ ما يزرعُ في قلبهِ من العقائدِ الشيطانيةِ التي هي من أعظمِ
مكائد الشيطانِ للمسلمين، وأشدّ وسائلهِ إلى ضلال العباد، ما يزلزله عن
الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلبَ من صاحبِ ذلك القبرِ ما لا يقدرُ عليه
إلا الله ـ سبحانه ـ، فيصيرُ في عدادِ المشركين) .
ب- المسلكُ العلمي :
وهذا المسلكُ يقومُ به أهلُ العلمِ وطلابه، تجاهَ دعاوى القبوريين وشبهاتهم، وسنعرضُ لجُملةٍ من الأجوبةِ العلميةِ على النحو الآتي :
1- إذا كان أهلُّ السنةِ ينطلقون من منهجٍ متينٍ أصيل في التلقي
والاستدلال، فإنَّ القبوريين يعوّلون في تلقيهم، واستدلالهم على المناماتِ
والأحاديثِ المكذوبةِ، والحكاياتِ المزعومة.
فيحتجون بأحلامٍ شيطانية، على تجويزِ شركهم وكفرهم بالله تعالى، ومن ذلك أن
أبا المواهبِ الشاذلي يقول: ( رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال
لي: إذا كانت لك حاجةً وأردتَ قضاءَها فأنذر لنفيسةِ الطاهرة ولو فلساً؛
فإنَّ حاجتك تقضى) .
فهذا حلمٌ شيطاني، ودعوةٌ صريحةٌ للشرك باللهِ ـ عز وجل ـ، ونقضَ التوحيد،
وتنقُّصٌ لمقامِ سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- الذي مكث ثلاثاً
وعشرين عاماً يدعو إلى إفرادِ الله تعالى بالعبادة، ويسدُّ كل طريقٍ يفضي
إلى الشرك.
وعلى كلٍّ؛ فالمناماتُ لا يُمكنُ ضبطها، وصاحبها ليس نبياً معصوماً، ومن
ثَمَّ فلا يعتمدُ عليها؛ فكيفَ إذا كانت حُلماً شيطانياً، وخالفَ الأحكامَ
الشرعية، بل وخالفت الأصلَ الأصيل، وهو إفرادُ اللهِ تعالى بجميعِ أنواعِ
العبادة؟
يقولُ شيخُ الإسلام: (وكذلك مشاهدٌ تُضاف إلى بعض الأنبياءِ أو الصالحين،
بناءً على أنَّه رُئِيَ في المنامِ هناك؛ ورؤيةُ النبي -صلى الله عليه
وسلم- أو الرجلَ الصالح في المنام ببقعةٍ لا يُوجبُ لها فضيلة، تقصدُ
البقعةَ لأجلها، وتُتخذُ مصلى بإجماعِ المسلمين، وإنَّما يفعلُ هذا
وأمثالهُ أهلُ الكتاب) .
ويحتجون بأحاديثَ مكذوبة مثل: ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور).
(فهذا الحديثُ كذبٌ مُفترى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، بإجماعِ
العارفين بحديثه، لم يروه أحدٌ من العلماءِ بذلك، ولا يُوجدُ في شيءٍ من
كُتبِ الحديث المعتمدة) .
وأشارَ ابنُ القيمِ ـ رحمه الله ـ إلى أنَّ هذا الحديثِ من الأحاديثِ
المختلَقة التي وضعها أشباهُ عبّادِ الأصنام من المقابرية على رسول الله .
كما يعتمدون على حكاياتٍ في تجويزِ الغلوَِ في القبور، والاستغاثةُ بها، وأنَّ الدعاءَ عندها هو الترياقُ المجرّب.
وغالبُ هذه الحكاياتِ من اختلاق الدجَّالين الأفاكين، الذين لا يُهمهم إلا
أكلَ أموالَ الناسِ بالباطل، والصدِّ عن دين الله تعالى .
وقد أشارَ ابنُ تيميةَ إلى أنَّ هذهِ الحكايات (إمَّا كذب، أو غلط، أو ليس حجة) .
كما ذكرَ أنَّ إجابةَ الدعاءِ، قد يكونُ سببهُ اضطرارَ الداعي وصدقهِ، وقد
يكونُ سببهُ مجردَ رحمةِ اللهِ له، وقد يكونُ أمراً قضاهُ اللهُ لا لأجل
دعائه، وقد يكونُ له أسبابٌ أخرى .
وقد تكونُ تلك الحكاياتِ صحيحة، ولكنَّها من الشيطان، فإنَّه قد يتراءى
لبعضهم في صورةِ من يعتقدُ فيه، ويتسمى باسمهِ، وقد تقضي الشياطينُ بعضُ
حوائجِ من استغاثَ بالأموات.
يقولُ ابنُ تيميةَ: ( وهكذا كثيرٌ من أهل البدعِ والضلالِ والشرك المنتسبين
إلى هذه الأمة؛ فإنَّ أحدهم يدعو ويستغيثُ بشيخهِ الذي يعظمهُ وهو ميت،
ويرى ذلك الشخصُ قد أتاهُ في الهواءِ، ودفعَ عنهُ بعضَ ما يكره، أو كلّمهُ
ببعضِ ما سأله عنه، وهو لا يعرفُ أنَّ تلك شياطينٌ تصوّرت على صورتهِ
لتُضله، وتُضلَّ أتباعه، فتحسِّنُ لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله) .
فيتعينُ على أهلِّ العلمِ كشفِ عوار مسلكِ القبوريين وبيان تهافته، وفسادِ
التعويل على المناماتِ والأحلام، والأحاديثَ الموضوعة، والحكاياتِ
المزعومة، مع تقريرِ المنهجِ الصحيح في التلقي والاسـتـدلال، كالاعتمادِ
على الكتابِ والسنة الصحيحة، واعتبارُ فهم السلف الصالح ونحو ذلك.
2- ومن الأجوبةِ المُجملةِ المُحكمة، ما ذكره إمامُ الدعوةِ ـ رحمه الله ـ
في الردِّ على شُبهاتِ القبوريين بقوله: (جوابُ أهلِّ الباطل من طريقين:
مجملٌ ومفصل.
أمَّا المُجمل: فهو الأمرُ العظيم، والفائدةُ الكبيرةِ لمن عقلها، وذلك
قولهُ تعالى: ((هُوَ الَذِي أَنـزَلَ عَـلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا
الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ)) [آل عمران: 7].
وقد صحَّ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قال: ( إذا رأيتم
الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فـأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) أخرجه
البخاري ومسلم.
مثالُ ذلك : إذا قال لك بعضُ المشركين: ألا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خوفٌ
عليهم ولا هم يحزنون، وأنَّ الشفاعةَ حقٌّ، وأنَّ الأنبياءَ لهم جاهٌ عند
الله، أو ذكرَ كلاماً للنبي - صلى الله عليه وسلم- يَستدلُ به على شيءٍ
من باطله، وأنتَ لا تفهمُ معنى هذا الكلامِ الذي ذكرهُ، فجاوِبهُ بقولك:
إنَّ اللهَ ذكرَ في كتابهِ، أنَّ الذين في قلوبهم زيغٌ يتركون المُحكم،
ويتبعون المُتشابه، وما ذكرتُه لك من أنَّ الله تعالى ذكرَ أنَّ المشركين
يُقرون بالربوبية، وأنَّ كفرهم بتعلقهم على الملائكةِ والأنبياء، مع قولهم:
هؤلاءِ شفعاؤُنا عند الله، وهذا أمرٌ محكمٌ بيّنٌ، لا يقدرُ أحدٌ أن
يغيرَ معناه.
ومــا ذكرته لي أيَّها المشرك من القرآن، أو كلامَ النبي -صلى الله عليه
وسلم-، لا أعرفُ معـنـاهُ، ولكن أقطعُ أنَّ كلامَ اللهِ لا يتناقض، وأنَّ
كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُخالف كلام الله -عز وجل- وهذا جوابٌ
سديد، ولكن لا يفهمهُ إلا من وفقهُ الله فلا تستهينُ به ) .
فـهـذا جوابٌ سديدٌ، وحجةٌ ظاهرةٌ، تجاه كل شبهة. وقد ساقَ المؤلفُ جواباً
في توضيحِ هذا الجواب، فإقرارُ مشركي العربِ بتوحيد الربوبيةِ، وأنَّ
كفرهم بسببِ اتخاذهم وسائطَ بينهم وبين الله تعالى، يسألونهم ويدعونهم،
يُعَدّ أمراً محكماً ظاهراً لا اشتباه فيه ولا التباس، وأمَّا احتجاجُ
المبتدعِ لباطلهِ ببعض النصوصِ الشرعية، فهو أمرٌ مشتبهٌ ومشكل، لا يَعلمُ
معناهُ بالنسبةِ لذلك الموحد، ولا يتركُ المحكمَ الواضح ويتبعُ المتشابه
إلا أهلُ الزيغ؛ مع يقيننا أنَّ أدلةَ الحقِّ لا تتناقضُ سمعية كانت أو
عقلية؛ فالنصوصُ الشرعيةِ يُصدّقُ بعضها بعضاً، فما كـان متشابهاً فيردّ
إلى ما كان محكماً، بل نجزمُ أنَّ أهلَّ البدعِ لا يكادونَ يحتجون بحجةٍ
سمعيةٍ ولا عقليةٍ إلاَّ وهي عند التأملِ حجةً عليهم لا لهم .
وهؤلاءِ القبور يون من أهلِ الزيغ، الذين يتبعون المتشابهَ ابتغاءَ الفتنة،
ليس نظرُهم في الدليلِ نظرَ المستبصر، حتى يكونَ هواهُ تحت حكمه، بل نظرَ
مَنْ حكم بالهوى، ثُمَّ أتى بالدليل كالشاهدٍ له .
وشبهاتهم التي احتجوا بها إن صحت ـ من المتشابهات التي يتعينُ ردّها إلى
المحكماتِ من الآيات والأحاديث الدالةِ على وجوبِ إفراد الله تعالى بالدعاء
والاستغاثة، وسائرِ أنواعِ العبادةِ والنهي عن الشركِ وذرائعه.
3- وإذا انتقلنا إلى الجوابِ عن شبهاتهم، فنقولُ ابتداءً: لا يُوجدُ لدى
القبوريين دليلٌ صحيحٌ صريح، في تجويزِ استغاثتهم بالقبور، وما قد يصحُّ من
شُبهاتهم إنَّما قد يُستدلُ بها عند البعضِ على جوازِ التوسلِ إلى اللهِ
تعالى بالذوات، فلا تدلُ على جوازِ الاستغاثةِ بالقبور، والتوسلِ إلـى
الله تعالى بالذوات بدعةٌ محدثة، بينما الاستغاثةُ بالقبور كفرٌ وردة،
فالفرقُ بينهما ظاهر.
يقولُ الشيخُ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: موضحاً الفرقَ بين التوسلِ
والاستغاثة: (وبينهما فرقٌ عظيم، أبعدَ مما بينَ المشرقِ والمغرب، فالعامةُ
الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياءِ والصالحين، كقول أحدهم: أتوسلُ إليك
بنبيكَ، أو بملائكتكَ، أو بالصالحين، أو بحقِّ فلان، وغـيـر ذلك مما
يقولونهُ في أدعيتهم، يعلمون أنَّهم لا يَستغيثون بهذه الأمور، ولا
يَسألونها وينادونها؛ فإنَّ المستغيثَ بالشيءِ: طالبٌ منه وسائلٌ له،
والمتوسلُ به: لا يدعو ولا يطلبُ منه، ولا يسأل، وإنَّما يطلبُ به، وكلُّ
أحد يفرّقُ بين المدعو به، وبين المدعو والمستغاث، ولا يُعرفُ في لغةِ أحدٍ
من بني آدم أنَّ من قالَ: أتوسلُ إليك برسولك، أو أتوجهُ إليك برسولك؛
فقد استغاثَ به حقيقة، فإنَّهم يعلمون أن المستغاثَ به مسؤولٌ مدعو،
فيفرّقون بين المسؤول وبين المسؤول به) .
ومع ذلك فالتوسلُ إلى الله تعالى بالذواتِ أو الجاه، قد صاَر ذريعةً إلى
دعاءِ القبورِ والتعلق بها، وما قد يُستدل به على التوسلِ إلى الله
بالذواتِ أو الجاه، فإمَّا أن يكون صريحاً، لكنَّهُ لا يصحُّ ولا يثبت، وما
قد يكونُ صحيحاً فلا يدلُ على مرادهم، وإنَّما يدلُ على التوسلِ
المشروعِ، كالتوسلِ بأسماءِ الله وصفاتهِ والعمل الصالح، كما بُسط في
موضعه .
وأمرٌ آخر، وهو أنَّ القبوريين قد لبّسوا على العوامِ وأشباههم بهذهِ
الألفاظِ المجملةِ المشتركة، فصاروا يُطلقون لفظ (التوسلِ) مثلاً على
الاستغاثة بالقبور ودعائِها، فيظنُ البعضُ أنَّ مرادهم التوسلُ إلى اللهِ
بالذاتِ أو الجاه، فيقعُ اللبسُ والإشكال.
والتحقيقُ أنَّ هذه الألفاظِ المجملةِ يتعينُ تفصليها وبيانها، وقد بينَّ
أهلُ العلمِ ما يحملهُ لفظَ (التوسلِ) من الإجمالِ والاشتراك، ومن ذلك ما
قالهُ الشيخُ العلامة -عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن- : ( إنَّ لفظَ
التوسلِ صارَ مشتركاً، فعبّادُ القُبورِ يُطلقونَ التوسلَ على الاستغاثةِ
بغيرِ اللهِ، ودعائهِ رغَباً ورهباً، والذبحِ والنذرِ والتعظيمِ بما لم
يُشرع في حقِّ مخلوق.
وأهلُّ العلمِ يُطلقونهُ على المتابعةِ والأخذِ بالسُنة، فيتوسلونَ إلى
اللهِ بما شرعهُ لهم من العبادات، وبما جاءَ به عبدهِ ورسولهِ محمد -صلى
الله عليه وسلم-، وهذا هو التوسلُ في عرفِ القرآن والسنة، ومنهم من يَطلقه
على سؤالِ الله ودعائهِ بجاه نبيه، أو بحقِّ عبدهِ الصالح، وهذا هو
الغالبُ عند الإطلاقِ في كلامِ المتأخرين، كالسُبكي والقسطلاني وابن حجر
(الهيثمي) .
ومن شُبهاتِ القبوريين قولهم: إنَّ مشركي العربِ لم يكونوا يعترفونَ
بالربوبية لله تعالى، ونحنُ نعترفُ بأنَّ اللهَ تعالى هو الربُّ المدبّر
الخالق.
فالجـوابُ عن هذهِ الشُبهة: أنَّ مشركي العربِ مقرونَ بتوحيدِ الربوبية،
فلم يُنازعوا فيه، بل إنَّ هذا التوحيدِ لم يُنازع في أصلهِ أحدٌ من بني
آدم .
والدليلُ على أنَّ هؤلاءِ المشركين الذين قاتلهم رسولُ اللهِ -صلى الله
عليه وسلم- واستحلَّ دماءَهم، كانوا مُقرين بأنَّ اللهَ هو الخالقُ
الــرازقُ المدبّر، لقوله سبحانه: (( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن
يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن
يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ))
[يونس: 31].
قال قتادةَ ـ رحمهُ الله ـ: (إنَّك لستَ تلقى أحداً منهم إلا أنبأك أنَّ اللهَ ربه، وهو الذي خلقهُ ورزقه، وهو مشركٌ في عبادته) .
وقال ابنُ جريرٍ ـ رحمه الله ـ عند قوله تعالى: ((فَقُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ)) [يونس: 31]: (أفلا تخافون عقابَ الله عـلـى شرككم وعبادتكم
معه، من لا يرزقكم شيئاً ولا يملكُ لكم ضراً ولا نفعاً ) .
فـالإقرارُ بربوبيةِ الله تعالى لا يتحققُ به التوحيدُ المطلوب، فمشركو
العربِ مقرون بتوحيدِ الربوبية، ومن ذلك قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه
وسلم- واستحلَّ دماءَهم حتى يفردوا الله -عز وجل - بجميعِ أنواعِ العبادة.
ومن شُبهاتهم: دعواهم أنَّ الآياتِ القرآنيةِ نزلت فيمن يعبدُ الأصنامَ والأحجار. فلا تشملهم.
وجوابها: أنَّ الشركَ بالله، أن يجعلَ لله نداً في العبادةِ، سواءً كان صنماً أو حجراً أو نبياً أو ولياً.
ومما قالهُ العلامةُ محمد بن علي الشوكاني ـ رحمهُ الله ـ جواباً عن هذهِ
الشُبهة: (الشركُ هو أن يفعلَ لغيرِ الله شيئاً يختصُ به سبحانه، سواءً
أطلقَ على ذلك الغير ما كان تُطلقهُ عليه الجاهلية ـ كالصنمِ والوثن ـ أو
أطلقَ عليه اسماً آخر ( كالولي والقبرِ والمشهد) .
وإن أرادَ القبور يون بمقولتهم: هؤلاءِ الآياتِ نزلت فيمن يعبدُ الأصنام،
بأنَّه لا يجوزُ تنزيلُ هذه الآياتِ على من عملَ عملهم؛ فهذا من أعظمِ
الضلال.
يقولُ الشيخُ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهُ الله ـ عن هذهِ المقولةِ : ( فهذا
ترسٌ قد أعدّهُ الجُهَّالُ الضلاَّل لردِّ كلام، إذا قالَ لهم أحدٌ: قال
اللهُ كذا، قالوا: نزلت في اليهود، نزلت في النصارى، نزلت في فلان.
وجوابُ هذه الشُبهةِ (الفاسدة) أن يُقالَ: معلومٌ أنَّ القرآنَ نزلَ
بأسباب، فإن كانَ لا يُستدلُ به إلاَّ فـي تلك الأسبابِ بطلَ استدلاله،
وهذا خروجٌ من الدين، وما زالَ العلماءُ من عصرِ الصحابـةِ فمن بعدهم
يستدلون بالآياتِ التي نزلت في اليهودِ وغيرهم على من يعمل بها ) .
ومن شُبهاتهم: أنَّ سؤالهم أربابَ القبورِ من أجلِّ طلبِ الشفاعة، فهؤلاءِ الموتى شُفعاءُ بينهم وبين الله تعالى.
والجوابُ: أنَّ الله قد سمى اتخاذُ الشفعاءِ شركاً، فقال ـ سبحانه ـ: ((
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [يونس: 18].
وأمرٌ آخر، أنَّ الشفاعةُ كلها لله تعالى كما قالَ ـ سبحانه ـ : ((قُل
لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)) [الزمر: 44]، وقال عز وجل: (( وَلا
يَمْلِكُ الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ)) [الزخرف: 86].
يقــــولُ ابنُ تيميةَ: ( فلا يملكُ مخلوقٌ الشفاعةَ بحال، ولا يتصورُ أن
يكونَ نبي فمن دونه مالكاً لها، بل هذا ممتنعٌ، كما يمتنعُ أن يكونَ خالقاً
ورباً.
قال سبحانه: (( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) [سبأ: 23] .
فنفى نفعَ الشفاعةِ إلاَّ لمن استثناه، لم يثبت أن مخلوقاً يملكُ الشفاعة،
بل هو سبحانه له الملكُ وله الحمد، لا شريكَ لهُ في الملكِ) .
وجوابٌ ثالث: أنَّ اللهَ تعالى أعطى الأنبياءَ والأولياءَ الشفاعـة، لكن
نهانـا عن سؤالهـم ودعائهـم، فقال سبحانه: (( وَلا تَدْعُ مِن دُونِ
اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإن فَعَـلْتَ فَـإنَّكَ إذاً
مِّنَ الظَّالِمِينَ)) [يونس: 106]، والشفاعةُ نوعٌ من الدعاء .
ولا يكونُ الدعاءُ إلاَّ لله تعالى وحده.
كما أنَّ إعطاءَ اللهِ الأنبياء والأولياء الشفاعة، ليس تمليكاً مطلقاً، بل
هو تمليكٌ معلّقٌ على الإذنِ والرضا، وسيدُ الشفعاء - صلى الله عليه
وسلم- لا يشفعُ حتى يقالُ له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تشفّع) .
والحديثُ عن شبهات القبوريين والردُ عليها طويلٌ جداً، وإنَّما ذكرنا بعضاً
منها، وقد صُنفت مصنفاتٍ نافعة، تتضمنُ الرد على شبهاتِ القبوريين، مثلُ
قاعدةٍ جليلةٍ في التوسلِ والوسيلة، والردُّ على البكري، والردُّ على
الأخنائي، كلها لشيخِ الإسلام ابن تيمية، وإغاثةُ اللهفـانِ في مصايدِ
الشيطان، لابن القيم، والصارمُ المنكي في الرد على السُبكي، لابن عبد
الهادي، وكشفُ الشُبهات، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتطهيرُ الاعتقاد عن
أدرانِ الإلحاد للصنعاني، والنبذةُ الشرعيةُ النفيسة في الردِّ على
القبوريين، لحمد بن معمر، والدرُّ النضيد فـي إخلاص كلمة التوحيد، لمحمد
ابن علي الشوكاني، وصيانةَ الإنسان عن وسوسةِ دحلان، لمحمد بشير السهسواني،
وتطهيرُ الجنانِ والأركان عن درنِ الشركِ والكُفران، لأحمد بن حجر آل
بوطامي، وتحذيرُ الساجد من اتخاذِ القبور مساجد، لمحمد ناصر الدين
الألباني، والدعاءُ ومنزلـتـهُ في العقيدةِِ الإسلامية لجيلاني بن خضر
العروسي، وغيرها كثير.
في عرضهِ لسُبلِ معالجةِ انحرافاتِ القبوريين، تطرقُ الكاتبَ في الحلقةِ
السابقةِ إلى المسلكِ الدعوي، وأوضحُ فيه ضرورةَ أن يُعنى العلماءُ بتقريـر
الـتـوحـيدِ، وتربيةُ الأمةِ على الانقيادِ للشرعِ انقياداً والتزاماً،
ومخاطبةُ عقولِ الناسِ لبيانِ تهافتِ اعتقاداتِ القبورية، ثُمَّ شرع في
إيضاحِ المسلكِ الثاني وهو: المسلكُ العلميُّ الذي بينَّ فيه ضرورةَ إيضاحِ
قـواعدَ الاستدلالِ عند أهلِّ السنة وأهلِّ البدع، والتنبيهُ على أنَّ
أدلةَ اعتقادُ أهل السنة هي غالباً من المُحكمات بخلافِ أهل البدع، ثُمَّ
بينَّ تهافت استدلالات القبوريين على انحرافاتهم، ويواصلُ في هذه الحلقةِ
مقارعةُ ما تبقى من دعاويهم، وبيانُ جوانبٍ أُخرى في الموضوع.
- البيان -
4- ومن دعاويهم العريضةِ: احتجاجهم بأنَّ الكثيرَ من المسلمين في القديمِ
والحديـث يُبنون على القبور، ويتخذون المشاهدَ والقباب، ويتحرون الدعاءَ
عندها.
والجوابُ عن هذه الدعوى من وجوه:
أحدُها: أنَّ أكثرَ هذه المشاهدُ مكذوبةً، لا تصحُ نسبتها إلى أصحابها،
وكما يقولُ شيخُ الإسلامِ : ( وكم من مشهدٍ يُعظمهُ الناسُ وهو كذبٌ، بل
يُقالُ إنَّه قبرُ كافر، كالمشهدِ الذي بسفحِ جبلِ لبُنان، الذي يُقالُ
إنَّه قبرُ نوح؛ فإنَّ أهلَّ المعرفةِ يقولون إنَّهُ قبرُ بعضُ العمالقة،
وكذلك مشهدُ الحُسين الـذي بالـقــاهـرة، وقبرُ أبيّ بن كعب الذي في دمشق،
اتفق العلماء على أنَّه كذب) .
ويقولُ في موضعٍ آخر: (عامةُ أمرِ هذه القبورُ والمشاهدُ مضطربٌ مُختلق، لا
يكادُ يوقفُ منه على العلم إلاَّ في القليلِ منها بعد بحثٍ شديد؛ وهذا
لأنَّ معرفتها وبناءَ المساجدِ عليها ليس من شريعةِ الإسلام، بل قد نهى
النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يفعلهُ المبتدعون عندها) .
ثانياً: إنَّ البـنـاءَ على القبورِ، وتحري الدعاءَ عندها، ونحو ذلك من
البدعِ المنكرةِ التي حذَّر منها الشارعُ أيُّما تحذير، كـمــا في قولهِ
-صلى الله عليه وسلم- : (لعن اللهُ اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم
مساجد ـ يُحذّرُ ما صنعوا) متفق عليه.
يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية
قد كان من قبورِ أصحاب رسول بالأمصارِ
عددٌ كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، وما استغاثوا عند قبر
صاحب قط، ولا استسقوا عند قبرهِ ولا به، ولا استنصروا عنده ولا به. ومن
المعلومِ أنَّ مثلَ هذا مما تتوفرُ الهممُ والدواعي على نقله، بل على نقلِ
ما هو دونه، ومن تأملَ كُتبَ الآثار، وعرفَ حالُ السلفِ، تيقنَ قطعاً أنَّ
القومَ ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاءَ عندها أصلاً،
بل كانوا يُنهون عن ذلك من كان يفعلهُ من جُهّالهم ) .
ويقولُ ابنُ القيم مبيّناً أنَّ صنيع القبوريين مفارقٌ لما كان عليه سلفُ الأمةِ:
(هل يُمكنُ لبشرٍ على وجهِ الأرضِ أن يأتي عن أحدٍ منهم [ أي: السلف
الصالح ] بنقلِ صحيحٍ أو حسنٍ أو ضعيف أو منقطعٍ، أنَّهم كانوا إذا كانَ
لهم حاجةً قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلاً أن يُصلّوا عندها،
أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثرٍ واحد،
أو حرفٍ واحد في ذلك.) .
يقولُ العلامةُ الصنعاني جواباً عن هذهِ الشبهة: (إن أردتَ الإنصافَ وتركت
متابعةَ الأسلافِ، وعـرفــت أنَّ الحقَّ ما قامَ عليه الدليل، لا ما اتفق
عليه العوالمُ جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل؛ فاعلم أنَّ هذهِ الأمورِ
التي نُدندنُ حولَ إنكارها، ونسعى في هدمِ منارها، صادرةً عن العامةِ
الذين إسلامهم تقليدَ الآباء بلا دليل، ينشأُ الواحدُ فيهم، فيجدُ أهلَ
بلدته يلقنونه: أن يهتفَ باسم من يعتقدون فيه، ويراهم يُنذرون له، ويرحلون
إلى محلِّ قبره، فنشأ على هذا الصغير، وشاخَ عليه الكبير، ولا يسمعون من
أحدٍ عليهم من نكير، ولا يخفى على أحدٍ يعرفُ بارقةً من علم الكتاب
والسنةِ والأثر، أنَّ سكوت العالم على وقوعِ المنكرِ ليس دليلاً على جوازِ
ذلك المنكر) .
ويقولُ العلامةُ الشوكاني: ( اعلم أنَّه قد اتفق الناسُ سابقهم ولاحقهم،
وأولهـم وآخرهم من لدن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى هذا الوقت، أنَّ رفعَ
القبورِ والبناءِ عليها من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتدَّ وعيد رسول
-صلى الله عليه وسلم- لفاعلها، ولم يُخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين) .
ثالثاً: أنَّ سكوتَ العلماءِ عن هذهِ المظاهرِ الشركيةِ والبدعية عند
المشاهد والقبور، لا يعني الرضا والإقرار، فقد يتعذرُ عليهم الإنكارُ باليد
وباللسان، ولم يبق لهم إلاَّ الإنكارُ بالقلب، لا سميا وهذه المشاهدُ
والقـبــاب قد بناها حكامٌ وسلاطين؛ كما يقولُ الصنعاني: (فما كلَّ سكوتٍ
رضى؛ فإنَّ هذه منكراتٌ أسسها من بيدهِ السيفُ والسنان، ودماءُ العباد
وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحتَ قولهِ وكلامه، فكيف يقوى فردٌ من
الأفراد على دفعهِ عمَّا أراد. فإنَّ هذه القبابُ والمشاهدُ أعظمُ ذريعةً
إلى الشرك والإلحاد، وأكبرُ وسيلةً إلى هدمِ الإسلامِ وخرابِ بُنيانه،
وغـالـبُ بل كل من يعمُرها هم الملوكُ والسلاطين والرؤساء والولاة، إمَّا
على قريبٍ لهم، أو على من يُحسنون الظن فيه.) .
ومن هذا القبيل ما يحتجُّ به القبور يون، بأنَّ قـبـرَ النبي -صلى الله
عليه وسلم- قد ضُمّن المسجد النبوي دون نكير، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن
فيه، كما يحتجون بوجود القبةِ على قبره صلى الله عليه وآله وسلم.
والجوابُ: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دُفن في حجرةِ عائشة ـ رضي الله
عنها ـ شرقي المسجد، فلم يُدفن في المسجد، والأنبياءُ يُدفنون حيثُ
يموتون ـ كما جاءت بذلك الأحاديث ـ.
كما أنَّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ دفنوه في حُجرةِ عائشةَ كي لا يتمكنَ
أحدٌ بعدهم من اتخاذ قبرهِ مسجداً؛ كما في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ
قالت: قال رسول -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه: ( لعن الله
اليهودُ والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: فلولا ذلك أُبرِزَ
قبره، غيرَ أنَّه خُشي أن يُتخذ مسجداً) أخرجه البخاري ومسلم.
وأمرٌ آخر، وهو أنَّ الحجرة النبوية إنَّما أُدخلت في المسجد في خلافة
الوليد بن عبد الملك، بعد موتِ عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة .
حيثُ أمرَ الوليد بن عبد الملك سنةَ ثمانٍ وثمانين بهدم المسجد النبوي،
وإضافة حُجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه على سبيل التوسعة،
فأُدخل فيه الحجرةَ النبويةَ، حجرةَ عائشة، فصار القبرُ بذلك في المسجد .
فلا يصحُ الاحتجاجُ بما وقع بعد الصحابة؛ لأنهُ مخالفٌ للأحاديث
الثابتة،وما فهمه سلف الأمة، وقد أخطأ الوليدُ في إدخالهِ الحجرةَ النبويةَ
ضمن المسجد، وكان باستطاعته أن يُوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرضَ
للحجرةِ النبوية .
وأمَّا دعوى عدمُ الإنكار، فهذه دعوى بلا دليل، وعدمُ العلمِ ليس علماً
بالعدم، وسكوتُ العلماءِ لا يعني الرضا والإقرار؛ كما سبق الإشارةُ إليه
آنفاً؛ لا سميا وأنَّ الذي أدخلَ القبرَ النبوي ضمن المسجد، خليفةً ذو
شوكةٍ وسلطان ـ وهو الوليدُ بن عبد الملك، وكذا الذي اتخذ القبة هو السلطان
قلاوون.
ومع ذلك فإنَّ المعوّل عليه هو الدليلُ والبرهان، وليس واقع الناس وحالهم. والله المستعان.
ومما يبينُ تهافت هذه الدعوى: ما نُقل عن علماءٍ أنكروا هذا الصنيع وحذّروا منه.
فيُحكى عن سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: أنَّه أنكر إدخالُ حُجرة عائشة في المسجد، كأنَّهُ خُشي أن يُتخذ مسجداً
وأشارَ شيخُ الإسلام ابن تيمية إلى إنكارِ هذه القبة؛ حيثُ قال: (ثمَّ بعد
ذلك بسنينٍ متعددةٍ بنيت القبة على السقف، وأنكره من كرهه)
يقولُ العلاّمةُ حسين بن مهدي النعمي في الردِّ على هذه الدعوى: (قوله [أي
المخالف]: ومن المعلومِ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- له قبةً، وأولياءَ
المدينة وأولياءَ سائر البلدان.
أقولُ: الأمر كذلك؛ فكان ماذا؟ بعد أن حذرَّ -صلى الله عليه وسلم- وأنذرَ
وبرأ جانبهُ المقدس الأطهر -صلى الله عليه وسلم-، فصنعتم له ما نهى عنه،
أفلا كان هذا كافياً لكم عن أن تجعلوا أيضاً مخالفتكم عن أمرهِ حجةً عليه،
وتقدماً بين يديه! فهل أشارَ بشيءٍ من هذا، أو رضيهُ أو لم ينهَ عنه؟)
وقال العلاّمةُ الصنعاني في الجوابِ عن هذه الشُبهة: (فإن قلت: هذا قبر
رسول الله قد عُمرت عليه قبةٌ عظيمة، أُنفقت فيها الأموال. قلتُ: هذا جهلٌ
عظيمٌ بحقيقةِ الحال: فإنَّ هذه القبةُ ليس بناؤها منه ولا من الصحابة،
ولا من تابعيهم، ولا تابعي التابعين، ولا من علماءِ أُمته وأئمة ملته، بل
هذهِ القُبةُ المعمولةُ على قبرهِ -صلى الله عليه وسلم-، من أبنيةِ بعض
ملوكِ مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي، المعروف بالملك المنصور في سنة
678هـ، ذكرهُ في تحقيقِ النصرة بتلخيصِ معالمِ دار الهجرة، فهذهِ أمورٌ
دولية لا دليليه، يتبعُ فيها الآخر الأول )
ويُذكر أن الإخوان ـ رحمهم الله ـ قد هموا في زمنِ الملك عبد العزيز بن عبد
الرحمن آل سعود ـ رحمهُ الله ـ عند دخولهم المدينة المنورة، أن يزيلوا
هذه القبة، ولكنهم خشوا من قيامِ فتنةٍ أعظمُ من إزالة القبة
ج - المسلكُ الاحتسابي: وهذا مسلكٌ يقومُ به أصحابُ الحسبةِ، الآمرون
بالمعروفِ والناهون عن المنكر، لاسيما أصحابُ النفوذِ والسلطة والشوكة.
ويتمثلُ هذا المسلك في أمرين :
أحدهما: أن يسعى إلى هدمِ هذه القباب ونقضها وإزالتها، امتثالاً للوصيةِ النبوية واتباعاً لسلف الأمة.
فعن أبي الهياجِ الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب : (ألا أبعثك على ما
بعثني عليه رسول؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا
سويته). أخرجه مسلم.
ولما ذكر ابن القيم هدمَ مسجد الضرار وتحريقه، قال: ففي هذا دليلٌ على هدمِ
ما هو أعظمُ فساداً منه، كالمساجدِ المبنيةِ على القبور، فإنَّ حكمَ
الإسلامِ فيها أن تُهدّم كلها حتى تسوّى بالأرض، وهي أوْلى بالهدمِ من
مسجدِ الضرار، وكذلك القباب التي على القبورِ، يجب أن تُهدم كلها؛ لأنَّها
أُسست على معصيةِ الرسول؛ لأنَّه قد نهى عن البناء على القبور، فبناءٌ أسس
على معصيته ومخالفته بناءٌ غير محترم)
ومن الأمثلة على هذا المسلك ألاحتسابي، ما فعلهُ الحارث بن مسكين ـ رحمه الله ـ (ت 250هـ) عندما هدم مسجداً كان قد بني بين القبور
قال ابن كثيرٍ في حوادثِ سنة 236هـ: (فيها أمرَ المتوكلُ بهدم قبر الحسين
بن علي بن أبي طالب وما حولهُ من المنازل والدور، ونُودي في الناس: من وجد
هُنا بعد ثلاثةِ أيام ذهبنا به إلى المطبق (السجن)
وقال أبو شامة (ت 665هـ): (ولقد أعجبني ما صنعهُ الشيخُ أبو إسحاق
الجبينأني أحد الصالحين ببلادِ أفريقية، في المائةِ الرابعة، حكى عنه صاحبه
الصالح، أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدّب، أنَّه كان إلى جانبه
عينٌ تسمى عين العافية، كانت العامةُ قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق،
من تعذّر عليها نكاح أو ولد قالت: امضـوا بي إلى العافيـة، فتعرف بها
الفتنة، قال أبو عبد الله: فإنَّا في السحَرِ ذات ليلة إذ سمعتُ أذان أبي
إسحاق نحوها، فخرجتُ فوجدتُه قد هدمها، وأذّنَ الصبحِ عليها، ثمَّ قال:
اللهم إنِّي هدمتُها لك فلا ترفع لها رأساً، قال: (فما رُفِعَ لها رأس إلى
الآن)
وذكر ابن غنام في تاريخه، ما فعلهُ الشيخُ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهُ الله
ـ مع عثمان بن معمر، من هدمِ القباب وأبنيةِ القبور، فقال: ( فخرج الشيخُ
محمد بن عبد الوهاب، ومعهُ عثمان بن معمر، وكثيرٌ من جماعتهم إلى الأماكن
التي فيها الأشجارُ التي يعظمها عامةُ الناس، والقباب وأبنية القبور،
فقطعوا الأشجارَ، وهدموا المشاهدَ والقبور، وعدلوها على السُنة، وكان
الشيخُ هو الذي هدمَ قبةَ زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطعَ شجرة الذيب مع
بعض أصحابه)
ومما يجدُرُ التنبيهُ عليه، أنَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد سلك هذا
المسلك الاحتسابي العملي، لما كان عنده من شوكةٍ وقوة، ولكنهُ كان في أولِّ
أمره قد سلك مسلك الدعوةِ برفقٍ ولين، كما قال تلميذهُ وحفيدهُ الشيخ عبد
الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهم الله ـ: (كما جرى لشيخنا
محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في ابتداءِ دعوته، فإذا سمعهم يدعون زيد
ابن الخطاب -رضي الله عنه- قال: (اللهُ خيرٌ من زيد) تمريناً لهم على نفي
الشركِ بلين الكلام، نظراً إلى المصلحةِ وعدم النُفرةِ)
ويذكرُ الشيخُ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما فعلوه أثناءَ دخولهم مكة
ـ شرّفها الله ـ سنة 1218هـ فكانَ مما قالهُ: (فبعد ذلك أزلنا جميع
ما كان يُعبدُ بالتعظيمِ والاعتقاد فيه، ورجاء النفع، ودفع الضر بسببه، مع
جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في البقعةِ المطهرةِ طاغوتٍ
يُعبد؛ فالحمد لله على ذلك)
ومما سطرهُ المؤرخُ ابن بشرٍ عن بعض الأعمال التي قام بها الأمير سعود بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ ما يلي:
ففي حوادثِ سنة 1216هـ حين توجَّه سعود بالجيوش إلى كربلاء، فهدمَ القبة الموضوعة على قبر الحسين)
ويقولُ أيضاً: (وفي حوادث سنة 1217هـ حين دخلَ سعود مكة وطاف وسعى، فرّق
جيوشه يهدمون القباب التي بُنيت على القبور والمشاهد الشركية، وكان في مكة
من هذا النوع شيءٌ كثير في أسفلها وأعلاها، ووسطها وبيوتها).
فأقامَ فيها أكثرَ من عشرينَ يوماً، ولبث المسلمون في تلك القباب بضعةَ عشر
يوماً يهدمون، يباكرون إلى هدمها كل يوم، وللواحدِ الأحد يتقربون، حتى لم
يبق في مكة شيءٌ من تلك المشاهد والقباب إلا أعدموها، وجعلوها تراباً)
وفي سنة 1343هـ قام أتباعُ الدعوةِ السلفية بهدم القبابِ والأبنيةِ على
القبورِ بمكة، مثلُ القبة المبنيةِ على قبرِ أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله
عنها ـ.
وقام الشيخُ حافظ بن أحمد الحكمي ـ في جنوبِ الجزيرة العربية ـ بهدمِ قبةِ
في الساحل، بمشاركةِ بعضِ زملائه، وبقايا قبة على قبر الشريف حمود المكرمي
في سامطة
ويقولُ الشيخُ الألباني: (ومن تلك الأشجارِ، شجرةٌ كنت رأيتها من عشرِ
سنين، شرقي مقبرةِ شُهداءِ أُحد، خارج سورها، وعليها خرقٌ كثيرة، ثم
رأيتُها سنة 1371هـ قد استُأصلت من أصلها، والحمد لله، وحمى المسلمين من
شرِّ غيرها من الشجر، وغيرهِ من الطواغيت التي تعبدُ من دون الله تعالى)
الأمرُ الثاني: أن يسعى إلى فضحِ وكشفِ مكائدِ أربابِ القبور وسدنتها،
وبيانُ حقيقةِ هؤلاءِ الدجالين الملبسين، وما هُم عليه من الفجورِ والولوغِ
في الفواحش، وأكلُ أموالِ الناسِ بالباطل، وأنَّهم خونةً وعملاءَ
للاستعمار وأذنابه.
وقد كشفَ أهلُّ العلمِ حقائق مُخزية وأحوالاً فاضحةً لأولئك السدنةِ
المضلين وأتباعهم، وما يرتكبونه من انخلاعٍ عن شرائعِ الله تعالى، وولعٍ
بالفجور والقاذورات.
يقولُ العلاّمةُ النعمي حاكياً بعض أوضاعهم: (ومن ذلك أن رجلاً سألَ من فيه
مسكةُ عقل، فقال: كيف رأيتَ الجمعُ لزيارة الشيخ؟ فأجابه: لم أرَ أكثرُ
منهُ إلاَّ في جبالِ عرفات، إلاَّ أنِّي لم أرهم سجدوا لله سجدةً قط، ولا
صلوا مدةَ الأيام فريضةً.
فقالَ السائلُ: قد تحمّلها عنهم الشيخ.
قلت [النعمي]: وباب (قد تحمّل عنهم الشيخ) مصراعاه ما بين بُصرى وعدن، قد
اتسع خرقه، وتتابع فتقه، ونالَ رشاشَ زقُومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد
والمشهد)
ومما سوّده المؤرخ الجبرتي، في شأنِ مشهد عبد الوهاب العفيفي (ت 1172هـ)
وما يحصلُ عندَهُ من أنواعِ الفسوقِ والفجو